جرائم الإختراق الثقافي الغربي وسبل مواجهتها

جرائم الإختراق الثقافي الغربي وسبل مواجهتها

 

 

جرائم الإختراق الثقافي الغربي وسبل مواجهتها

قراءة في الصراع الفكري بين الإسلام والغرب

 

د. مهدي الكبيسي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لاشك أنّ الحدث الأهمّ الذي وضع العرب خصوصاً والشرق عموماً في مجرى التاريخ هو ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية في بداية القرن السابع الميلادي. وما كاد عام 732م (113 هـ) ينصرم حتى كان المسلمون قد تدفقوا خارج حدود الجزيرة العربية حاملين رسالة الإسلام إلى العالم الوسيع، ومقيمين امبراطورية عظيمة، وعلى حدّ تعبير المؤرخ فيليب حتّى: أعظم من روما في ذروة قوتها، امبراطورية تمتدّ من خليج بسكاي الى جزر الهند الغربية وحدود الصين، ومن بحر العرب إلى مساقط المياه لأعالي النيل، فبإسم الله ينادى خمس مرات في اليوم من آلاف المنائر المنتشرة في جنوب غربي اوربا وافريقيا الشمالية وآسيا الغربية والوسطى([1]).

 

حدث هذا في الوقت الذي كانت هناك قوتين عظميين تحكمان العالم: بيزنطية المسيحية وساسان الزرداشتية في فارس، حيث لم تستطع هاتان القوتان الأعظم - وقد أنهكتهما الحروب الإستنزافية المتبادلة على مدى ثلاثة قرون ـ أن تقاوما القوة الجديدة. فقد إنهارت الإمبراطورية الفارسية، وطردت البيزنطية  شمالاً إلى الأناضول في مدة لاتتجاوز الخمس والعشرين سنة.

 

وبهذا يكون الفتح الإسلامي قد غيّر وجه العالم، وكما يقول: ناتنغ: وليس هناك من إمبراطورية بلغت هذه الأبعاد وتمّ كسبها بمثل هذا الوقت([2]).

 

إنّ هذه الفتوحات الإسلامية الواسعة جعلت المسلمين على تماس حادّ بثقافات مختلفة، مثل: الثقافة اليونانية والفارسية والهندية، ولم يقتصروا على إستيعاب تراث هذه الثقافات فحسب، بل تفاعلوا معها وأضافوا إليها كذلك إضافات جوهرية واسعة بعدما ترجمت إنجازاتهم في كافة حقول العلم والمعرفة، وخاصة في الطب والبصريات والكيمياء والفلك والجغرافيا والفلسفة إلى اللغة اللاتينية.

 

لكن إنجازات المسلمين الفكرية ومساهماتهم في المعرفة الإنسانية قد قُلِّلت أهميتها وشوّهت ولم يُعترف بها، بل انّ الغرب ـ وهو العدو المقابل ـ قمع كل من حدّثته نفسه أن يبدي أيّ تعاطف يسير مع الإسلام أو المسلمين، كما حصل للعالم «وليم وستن» خليفة نيوتن، والاستاذ في جامعة كمبردج حينما أدّت حماسته للإسلام الى طرده من الجامعة عام 1709م([3]).

الغزو الغربي:

إنّ من أهم أسباب نشوء هذه النظرة غير المنصفة يعود الى ما يتّسم به الغرب من غرور مفرط، وهذه الحقيقة يؤكّدها الغربيون أنفسهم وعلى ألسنتهم. فقد كتبت الصحفية الاميركية المعروفة مرّة تقول: إنّ المسيحيين يبدون مغرورين الى درجة لاتصدق، وخصوصاً عندما يصل الأمر إلى الأديان الأخرى([4]).

 

وعزا هذا الغرور الاستاذ محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) إلى الإرث اليوناني والروماني، فكتب يقول: انّ اليونانيين والرومانيين نظروا إلى أنفسهم على أنّهم هم وحدهم المتمدنون، أمّا كل من كان اجنبياً عنهم وعلى الأخصّ أولئك الذين كانوا يعيشون شرق البحر المتوسط، فقد كان اليونانيون والرومانيون يطلقون عليهم كلمة «البرابرة»، ومنذ ذلك الحين والاوروبيون يعتقدون أن تفوّقهم العنصري على سائر البشر أمر واقع، ثم انّ أحتقارهم الى حدّ بعيد أو قريب لكل ما ليس اوروبياً من  اجناس البشر وشعوبهم قد أصبح احدى الميزات البارزة في المدنية الغربية([5]).

كراهية متأصّلة:

على أنّ هذا وحده لا يكفي لاظهار مايكنّه الاوروبيون نحو الإسلام خاصة، بل يعزو أيضاً الى الكُره العميق الجذور الذي يحمله الاوروبيون في قلوبهم تجاه المسلمين. وهذا الكره ليس عقلياً فحسب، وإنما يصطبغ بصبغة عاطفية قوية. إذ ما أن تتجه المسألة نحو الإسلام حتى يختل التوازن الغربي، ويأخذ الميل العاطفي بالتسرّب.

 

وهذا ما يتجلّى في كتابات المستشرقين الأوروبيين، حيث يظهر في أغلب كتبهم وبحوثهم على أنّ الإسلام متّهم يقف أمام قضاته، وهم يمثلون دور المدّعي العام الذي يحاول إثبات الجريمة.

 

وفي الجملة فانّ طريقة بحوثهم وإستقراءاتهم حول الإسلام تذكرنا بوقائع محاكم التفتيش التي انشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، ولذا تراهم «ينتشون سروراً خبيثاً حينما تعرض لهم فرصة ـ حقيقية أو خيالية ـ ينالون بها من الإسلام عن طريق النقد»([6]).

 

فضلاً عن ذلك فأن الافتراضات والنظريات التي يطرحها المستشرقون والمؤرّخون الأوروبيون أمثال: برنارد لويس، جب، فون غرونبوم، بروكلمان قد أضافت إلى الواقع المشوّه تشويهاً جديداً، لأنّ هؤلاء قد كتبوا ما كتبوا متأثرين بتركة إستشراق القرن التاسع عشر، وهي تركة على حدّ تعبير سي. آدمز: أرهبت عدداً من العلماء فتهيّبوا من محاولة إعادة فحص القضايا الجوهرية([7]).

 

والحق الذي يمكن أن يقال: انّ هؤلاء المستشرقين وأضرابهم انّما يمثّلون طلائع مدنيّتهم وفكرهم التبشيري البغيض. فإننا من أجل ذلك ـ كما يقول الأستاذ محمد أسد ـ: يجب أن نصل ضرورة إلى أن نستنتج انّ في العقل الاوربي على العموم ـ لسبب ما ـ ميلاً عن الإسلام بما هو دين وبما هو ثقافة، انّ سبباً واحداً لذلك يمكن أن يعزى إلى الأرث الذي قسّم العالم يومذاك: أوربيّين وبرابرة، وأمّا السبب الآخر وهو أشدّ صلة مباشرة بالإسلام فيمكننا ان نتبعه إذا ولّينا أبصارنا شطر الماضي وخصوصاً إلى تاريخ العصور الوسطى([8]).

كيف؟؟

فعندما صدع النبي(ص) بالدعوة كانت هناك ثلاث قوى مضادة تتباين في مواقفها تجاه الدين وهي: مشركو قريش، والنصارى، واليهود. وفيما كان موقف المشركين المعادي القائم على الجاه الاجتماعي والمصالح التجارية واضحاً، فانّ موقف اليهود السلبي إنما «كان مستنداً على خلفية الإحساس بالتفوّق الديني تجاه كل ما يمكن أن يظهر كمعارضة للتقليد التوراتي، والمستند أيضاً على الغرور العرقي والثقافي، خلافاً للنصارى الذين بدوا اكثر تحفّظاً واقل قتالية»([9]).

 

والقرآن الكريم يستعرض هذه المفارقة بوضوح، قال تعالى: (لتجدنّ أشد الناس عداوة للّذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وانّهم لا يستكبرون) ([10]).

 

ويمكن أن نعتبر أن حادثة المباهلة مع وفد نصارى نجران بمثابة أقصى حالات المواجهة يومذاك.

 

لكن بعد ان توالت الانتصارات الإسلامية الساحقة على الصعيد العسكري، وتحرّكه بإتجاه اوربا، وسلسلة الفتوحات الإستراتيجية في العمق المسيحي، بدأ ردّ الفعل السلبي واضحاً عند المسيحيّين ضد المسلمين، وخصوصاً من الذين كانوا يعايشونهم في البلاد التي فتحوها، فلم يرحّبوا على الإطلاق بالإسلام رغم التسامح الذي كان يبديه ايّاهم المسلمون والأقليات الاخرى.

فقد اتّخذ موقفهم السلبي نمطين اثنين:

الأول: ولاسيما من الرهبان، فقد سعوا الى تقليل أثر الصدمة بوصف هذه الفتوحات وتأويلها في إطار كنسي صرف بكونها ما هي الاّ إنتقام الهي من المعاصي الكثيرة التي أرتكبها المسيحيون، وتحقيق للتنبؤات الواردة في النصوص التوراتية، وعلى أمل أن يهبط منقذ المسيحية ويصدّ التحرك الإسلامي «المعادي» بفتح مسيحي مضادّ فوراً وبرعاية السماء!.

 

الثاني: ولاسيما من أصحاب القرارات السياسية، فقد اعتبروا المسلمين أعداءً سياسيّين وعسكريّين يجب مقارعتهم وبشتى الأسلحة المتوفرة.

 

وقد سجّل هذين الموقفين بوضوح «يوحنا الدمشقي» الذي عاش بدمشق في عهد الأمويّين وعمل في دار الخلافة، في كتابيه «ينبوع المعرفة» و«مساجلة بين عربي ومسيحي»([11]).

أمّا ردود الفعل الصادرة عن المثقفين والكتّاب المسيحيّين فقد اختلف عن موقفين:

أحدهما: يسمح بتبنّي موقف إيجابي يميل إلى التأييد بإعتبار أنّ الإسلام يحمل من الأُسس الإبراهيمية الشيء الكثير كـ«سيبوس» مثلاً الذي كان يقرّ بالمباني الإبراهيمية للإسلام، بل ويذهب الى حدّ الإعتراف ببعض من النبوة المحمدية([12]).

 

والآخر: سلبي فظّ تجاه العقيدة الإسلامية، وإعتبار الإسلام مجرد «هرطقة» ويرمي النبي(ص) بالكذب والبهتان المبين([13]).

 

وقد ازداد هذا الموقف السلبي سوءاً بمرور الأيام جراء الأفعال التي كان يصنعها حكّام المسلمين اللامسؤولة تجاه الرموز المسيحية في البلاد الإسلامية كفعل الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي أمر بهدم المزارات المسيحية المقدسة في مدينة القدس، ممّا ساعد ـ بفعله هذا ـ على تكريس التصوّر السلبي السيء للإسلام عند عقلية الفرد المسيحي.

 

كتبت الصحفية الإميركية «بربارا براون» تقول في صدد ذلك: كان في البداية ـ أي الموقف المسيحي تجاه الإسلام ـ ببساطة نوعاً من التذمر المكتوم، لكن عندما دمّر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله المزارات المقدسة المسيحية في القدس فانّ هذا التذمر تطور إلى صخب هادر، انّ المسيحيّين في أوربا كانوا يعيشون في خوف من غزو إسلامي، وكان عمل الحاكم بأمر الله هو القشّة الأخيرة([14]).

الجهل المسيحي بالإسلام:

حينما سمعت اوربا الغربية المسيحية لأول مرّة بالإسلام، وواجهتها تحدّي قوته المتزايدة لم يكن لدى اوربا حينذاك أيّة معرفة حقيقية بمن ستقاتله، فنتج عن هذا الجهل الممزوج بالخوف جملة من الأساطير والخرافات الخرقاء تضاهي ما تراكم في عهد اوغسطين.

 

يقول «ريتشارد سويثرن» في تاريخه الموجز: إنّ الذي انصقل كثيراً وازداد تعقيداً هو الجهل الغربي، وليس المعرفة الصحيحة بالإسلام، أدّى هذا الجهل بالإسلام إلى التفكير بضرورة القيام بعمل ما بشأن الإسلام. والواقع انّ عدم الإنصاف يتمثل في التصور المسيحي للمسلمين ككفّار ووثنيّين يعبدون ديناً زائفاً، ولمحمد (ص) كساحر، بل نُظر إلى النبي(ص) على انّه كاردينال في كنيسة روما، فلمّا اُحبطت آماله في أن يصير بابا ثار وفرّ إلى الجزيرة العربية حيث أنشأ هناك كنيسة خاصة به([15]).

 

ففي مثل هذا الجهل الفاضح الممزوج بالخوف والحذر «عشّشت وفقّست العديد من التصورات والمواقف والتأويلات الظالمة المشوّهة» على حدّ تعبير المستشرقة الالمانية د. آنا ماري شميل([16]).

 

وتستمر هذه الرؤية القاصرة لتطبع الذهنية الغربية المريضة تجاه الإسلام ورسوله الأعظم(ص) وكتابه المجيد بمعونة جملة عوامل ومقومات أبرزها وجود الرموز التبشيرية والدوائر الغربية التابعة لها التي ما انفكت من العمل الدائب على تكريس هذا الواقع من خلال نسج الأساطير والخرافات حول الرسالة المحمدية البيضاء وحتّى يومنا الحاضر.

 

ولئن تعامل الغرب ـ في البداية ـ مع الإسلام والمسلمين بشيء من الحذر، فانّه قد تجاوز هذه الحالة إلى ماهو أشد فيما بعد، فعندما وصل المسلمون إلى أبواب أوربا وانفتحوا عليها ديناً وحضارة، قابلهم الاوربيون بالخوف والرعب المشوبين بالحذر والرغبة في الصدّ والمقاومة، خاصّة بعدما أملت عليهم الكنيسة الرؤية الضبابية بإعتبار هؤلاء ما هم الاّ محتلّون وتوسعيون ومتوحشون وأعداء للمسيح في الوقت الذي شرعت الكنيسة لنفسها سياسة وحيدة الجانب تقوم على مواجهة «الخطر» الإسلامي، والعمل على إعادة الأمور إلى نصابها التي كانت عليه قبل ظهور الإسلام.

 

كتب المستشرق الكبير «رودنسون» يقول: لقد كان المسلمون خطراً على الغرب قبل أن يصبحوا مشكلته، وفي الوقت نفسه عامل أهتزاز شديد في بنيان الوحدة الروحية للغرب، وإنموذجاً حضارياً بديلاً يمتاز بتنافسه وحركته الإبداعية المتسارعة وقدرته الهائلة على الإنفتاح والإستيعاب. وفي مواجهة تقدّم هذا الإنموذج على المستوى الجيوسياسي عبّر مثقفو الغرب عن شعور عام بالأندهاش أمام المسلمين، وبدا ذلك لهم وكأنه خطر على المسيحية([17]).

 

ومن هنا كان لابد للكنيسة من إتباع برنامج دقيق يقوم على آلية عالية تعمل من أجل تكوين الصورة السلبية عن الشرق والإسلام لمواجهة هذا الخطر المحدق من جهتين:

 

الأولى: تشريع الكنيسة الغربية لوحدة ايديولوجية متكاملة في مواجهة فكر الإسلام وحضارته.

 

الثانية: إعتماد مشروع يهدف إلى تثبيت الإيمان المسيحي عند المسيحيّين من خلال تشويه الصورة الحضارية للإسلام ومايصل منها إلى مسامع الغربيّين بغية «تغيير ماترسخ في الوعي الغربي من إيجابيات الشرق الإسلامي»([18]).

الحروب الصليبية:

أتخذت الكنيسة الأوربية قرار الخيار العسكري كوسيلة فعّالة لوقف «الزحف» الإسلامي وقطع دابره من خلال إعلان حالة الحرب على البلاد الإسلامية وتحطيم شوكة الإسلام ومنعه من الخروق بإتجاه الديار الأوربية المسيحية، فحشدت لها الحشود، وعملت على تغطية ميزانيتها بأموال طائلة، ووجدوا الغطاء الذي يمكن أن يمرّروا عبره عملياتهم الوحشية، فأعلنوا أنّ هدف حملاتهم انّما هو لـ«تحرير» القدس وإنقاذها من أيدي «البرابرة» المسلمين الذين غزوا بلادنا وهتكوا مقدساتنا المسيحية.

 

وهكذا اندلعت الشرارة الأولى للحملات الصليبية عام 1096م ولم تنطفىء إلاّ بعد عام 1291م، أي استمرّت زهاء قرنين تقريباً، بعدما إستنزفت فيها أوربا المسيحية كل طاقاتها المادية والبشرية والحضارية، وباتت أشبه بمتسكع يذرع الطرقات بحثاً عن مأوى أو غذاء. ولم تثمر عن أيّ شيء يمكن أن يكون مدعاة للإفتخار أو إنجازاً حيوياً في طريق الأهداف التي نشدتها الكنيسة من قبل.

 

وفي الحقيقة انّ الغرب المسيحي الذي جاء إلى القدس للدفاع عن المدينة والمسيحيّين فيها لم يكن سوى باحث عن ذاته التي هدّدها الإسلام بزوالها. وهذا ما جعل «القدس» تبدو بالنسبة الى الغرب الصليبي ضرورة حيوية لدفع الخطر الإسلامي عن أوربا كمقدمة لإستعادة المبادرة الروحية المسيحية والهيمنة على الشرق كلّه.

 

يقول «غاردنر» معترفاً بهذا الكلام: انّ الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ هذه المدينة (القدس) بقدر ما كانت لتدمير الإسلام([19]).

 

ولذا فإنّ الحملات الصليبية الطويلة الأمد إنما كانت لهدف آخر غير المعلن عنه، وهو تدمير الإسلام وعلى كافة الأصعدة من خلال ضرب العمق الإستراتيجي للدولة الإسلامية المتمثل في مدينة القدس المقدسة. ومنه يظهر انّ هذه الحروب إنما تمثل مرحلة إستراتيجية اتخذتها الكنيسة كوسيلة فاعلة مرحلية للوصول إلى الهدف المنشود، وآلية تكتيكية راهنة رأت الحاجة إلى استخدامها لتحطيم الوجود الحضاري للإسلام العزيز.

 

والآن، وبعد مرور اكثر من سبعة قرون على إنتهائها يبرز تساؤل ملحّ اليوم: هل انّ الحركة الصليبية كانت مرحلة قد إنطوت صفحتها وإنقطعت أم أنها حالة ماتزال تتحرك في الواقع بصورة أو أُخرى؟؟

شبح الحروب الصليبية:

لايخفى على كل باحث انّ الحروب ـ مهما قصرت ـ من شأنها أن تحدث أثراً في نفسية الشعوب التي اكتوت بنارها، وقد يمتد هذا الأثر لأجيال عديدة. وهكذا كان شأن الحروب الصليبية فانّها أحدثت أثراً من أعمق الآثار وأبقاها في نفسية الأوربي وذهنية الفرد الغربي البسيط، وذلك نظراً:

* لطول مدتها وشدة ظراوتها.

* للمؤثرات العنيفة التي استخدمها رجال الكنيسة لتهييج العوام وإبراز العاطفة تجاه المقدسات المسيحية المنتهكة في القدس وغيرها.

* للحمية الجاهلية العامة التي أثارتها الكنيسة لدعم الجبهات بمقاتلين جهلة متخمين بالكراهية والحقد ضد كل ما له صلة بالإسلام.

* للخسائر المادية والبشرية الهائلة التي افرزتها الحروب الطويلة.

كتب الاستاذ محمد أسد يقول: انّ الاصطدام العنيف الأول بين أوربا المتحدة من جانب وبين الإسلام من جانب آخر، اي الحروب الصليبية يتفق مع بزوغ فجر المدنية الاوربية. وفي ذلك الحين أخذت هذه المدنية ـ وكانت لاتزال على اتصال بالكنيسة ـ تشقّ سبيلها الخاص بعد تلك القرون المظلمة... لقد كانت ثمة حروب بين المسلمين والاوربيّين قبل عصر الحروب الصليبية: كانت فتوح العرب في صقلية والأندلس، وكان هجومهم على جنوب فرنسا، ولكن كانت هذه المعارك قبل أن تستيقظ أوربا ويظهر وعيها الثقافي الجديد، فاتّسمت من أجل ذلك ومن جهة النظر الاوربية على الأقل: بطابع ذي نتائج محلية، ولم تكن المعارك قد فهمت بعد على وجهها الحقيقي انّ الحروب الصليبية هي التي عيّنت في المقام الاول والأهم موقف اوربا من الإسلام لبضعة قرون قادمة([20]).

 

فكم من حروب كثيرة قد نشبت بين الشعوب على مدى التاريخ الإنساني، وكم من عداوة تولدت بين الاطراف المتحاربة، ولكنها بمرور الأيام تنقرض مع ولادة أجيال جديدة وعقود جديدة، إلاّ الحروب الصليبية فانّها ظلت عالقة بالنفوس لم تندثر وتنقرض عن ذهنية الشعوب الأوربية تجاه المسلمين.

 

يقول محمد أسد أيضاً في ذلك: انّ الشرّ الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح، ولكنه قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء كان شراً ثقافياً. لقد نشأ تسميم العقل في الغرب... في ذلك الحين استقرّت تلك الفكرة المضحكة في عقول الأوربيين من أن الإسلام دين شهواني وعنف حيواني، وأنّه تمسك بفروض شكلية وليس تزكية للقلوب وتطهيراً لها. ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت ثم أصبح إحتقار الإسلام جزءاً أساسياً في التفكير الأوربي([21]).

 

إذن هناك رؤية فكرية قد تهيأت في ذهنية الأوربي الغربي في القرن الثاني عشر، ثم توسّعت لتمتد حتّى القرن الثامن عشر وحتّى العصر الإستعماري، هذه الرؤية على حدّ تعبير الأستاذ هشام جعيّط: تنطلق من عداء واسع للنبي(ص) الذي بنبوته «الكاذبة» قد أوقف تطور الإنسانية بإتجاه المسيحية حسب المزاعم النصرانية([22]).

 

لذا فإنّ شبح الحروب الصليبية ماتزال يتسكّع فوق ربوع أوربا التي ماتزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقفاً يحمل آثاراً واسعة لذلك الشبح البغيض. وبهذا الصدد يقول الأستاذ جعيّط مؤكداً هذه الحقيقة ومتسائلاً بسخرية: إنّ الأحكام القروسطية المسبقة قد اُدخلت في اللاوعي الجماعي للغرب على مستوى عميق يسمح لنا بالتساؤل بجزع: إذا كان بإمكانهم أن يخرجوا منه؟!([23]).

 

والجواب عليه نتركه إلى شهادات غربية اخترنا اثنين منها:

شهادتان:

أولى هذه الشهادات تدلي بها الألمانية الدكتورة «آنا ماري شميل» عميدة الإستشراق الألماني للعلوم الإسلامية، حينما أدلت بها عام 1991م تقول: لكم يبدو لي أحياناً انّ خوف الأوربيين من الزحف التركي (الإسلامي) مازال عالقاً بذاكرتهم التي لم تنس وقوف الترك مرتين امام أبواب فيينا عامي 1529 و1683م كأنّ ذلك الخوف الدفين لم تخب ناره، فتراه يصبغ سلوك كثير من الناس ازاء دين الترك الذي هو دين العرب والفرس ومسلمي شبه القارة الهندية([24]).

 

وثانيها أدلى بها الدكتور مراد هوفمان الدبلوماسي الألماني وهو ينقل الإنطباع السائد خلال حرب الخليج عام 1991م التي نبشت ذكريات قد كانت دفينة قائلاً: الحق انّ العالمين كليهما: المشرق المسلم والمغرب المسيحي قد وقفا مراراً، ويقفان اليوم مرة اخرى أمام كومة من الحطام أثناء حرب الخليج، سرى الخوف إلى نفوس المسلمين الذين يعيشون في أوربا وأفريقيا، كما تسلّل الخوف أيضاً إلى نفوس المسيحيّين الأوربيين في المغرب العربي والشرق الأوسط. لقد بدأ الأمر كما لو أننا سنتورّط جميعاً في حرب صليبية من جديد! أو أننا سنعود إلى عهود الحروب الصليبية الغابرة([25]).

إستراتيجية جديدة:

كانت الحملات الصليبية الطويلة مدعاة للغرب في أن يقف وقفة تأمل مع الذات بعدما أخفقت بكل مارصدت لها من ميزانية وإمكانيات هائلة من تحقيق أهدافها المنشودة.

 

فقد شعر الكثيرون من أصحاب القرارات السياسية والمفكّرين الاستراتيجيّين أن الحملات العسكرية لاتملك حظاً في النجاح، وأنّه لابدّ من التفكير بجدّية في ذلك، ووجوب إعادة النظر في الإستراتيجية السابقة وتجديدها نحو إستراتيجية جديدة تتّسم بفعالية أكثر ولاتشتمل على خسائر ولها أثر كبير في تغيير الواقع المتدهور، بينما ظلّ آخرون منهم يطالبون بالدعوة إلى استمرارها ودعمها مما كان قد تحقق. هذا في الوقت الذي كان كلا الطرفين يعرف أنّه «لم يعد ممكناً التصرّف بتهور أو اتباع الخاطرات كما حدث في الماضي القريب».

 

لقد أدرك الاوربيون وساد الإعتقاد بينهم أنّ الصراع العسكري مع الإسلام لايجدي نفعاً، ولايكفي وحده لاسقاطه ودحره، وانّه لابدّ من التفكير بعمق في تنظيم برنامج عمل كامل يقوم بدراسة وفهم مضامين الفكر الإسلامي ومعرفة مواضع القوة والضعف فيه كمرحلة أولى، ثم محاولة نقضه وإحداث الشرخ في جدرانه لغرض إختراقه وتحطيمه من الداخل، وبالتالي ضرب إرادة المقاومة عند هذا الخصم العنيد ثم إستئصاله بالمرّة.

 

ذلك لأنّ قوة المسلمين إنما هي بالإسلام، ففي حالة حدوث الإنفصال بينهما، و«الطلاق» بين الاثنين عندئذ يمكن كسر قوة المسلمين ودحر جحافلهم المنتشرة حول أوربا.

 

ومن هنا دخلت المواجهة بين الإسلام والغرب المسيحي مرحلة جديدة مبتنية على إستراتيجية جديدة تعتمد الأسلوب الثقافي الفكري سلاحاً لها لضرب الإسلام وإيجاد الخطر الدائم على وجوده.

 

إذ انّ مع حلول النصف الثاني من القرن الثالث عشر كان الموقف بين أوربا والإسلام قد بلغ درجة عالية من التعقيد وتباين وجهات النظر بين أصحاب القرار السياسي من الغربيّين واللاهوتيّين، وظهور أسباب جديدة للقلق كتزايد غير المسيحيّين في أوربا عدداً وعدّة، ودخول المغول على مسرح التاريخ بما يحملونه من نزعة تخريبية مما دفع بعض اللاهوتيين إلى البحث في إمكان إستخدام هؤلاء كأداة لضرب الإسلام عن طريق إتباع سياسية ذكية في التعامل معهم وفهم أهدافهم الحيوية.

 

كل ذلك كانت عوامل مساعدة على حسم الجدل القائم بين الغربيّين لصالح الفريق الثاني الداعي إلى التصدي الفكري، وإستخدام اسلوب الأختراق الثقافي كوسيلة للوصول الى العمق الحضاري للمسلمين كبديل للحملات العسكرية غير المجدية.

 

ولهذا استعيدت مكانة رائد هذا الاتجاه الأب «بطرس المبجّل» (1096 ـ 1156م) بعد أن ضاعت صيحاته وسط قعقعة السلاح وصليل السيوف، ولم تجد لأفكاره آذاناً صاغية عند الغربيين، خاصّة وقد كان الكثير من زملائه ممن يدعون لحلّ عسكري لقضية الإسلام، على اعتبار انّ الإسلام كان بالنسبة لهم خطراً عسكرياً حاضراً، والإجابة عنه يجب أن يتخذ طابعاً عسكرياً.

 

غير أنّ الذي حصل انّ قائد الحملة الصليبية السابعة وهي الأخيرة «لويس التاسع» إثر عودته إلى فرنسا بعد وقوعه أسيراً في مدينة «المنصورة» بمصر أقنع المعنيّين في أوربا بعدم جدوى القتال مع المسلمين لأنهم يملكون عقيدة راسخة تدفعهم إلى الجهاد وتحضّهم على التضحية بالنفس والمال والولد.

 

وهذا التصريح كان له الأثر الكبير في تغيير عقيدة ذلك الإتجاه الذي كان يرى أنّ الحلّ المناسب يجب أن يتخذ الطابع العسكري عند المواجهة مع الإسلام وأنصاره.

الخطوة الأُولى:

فكانت الخطوة الاولى التي قام بها الأب «بطرس المبجّل» أن رعى أول ترجمة للقرآن الكريم الى اللاتينية فانجزت عام 1143معلناً هدفه من عمله هذا قائلاً: «انّ نقطة البداية في حرب الإسلام هي القرآن»([26]). وقد شكّلت هذه الترجمة الأساس في مجال الدراسات الإسلامية بأوربا الغربية.

 

كتب المستشرق الفرنسي «أ. م. هذي» يقول: انّ هذه الترجمة وكل الترجمات التي تلتها لم يكن لها أيّ هدف آخر سوى أن تكون الأساس لتوجيه المزيد من الادانات ضد القرآن، تلك الأدانات التي امتدّت سلسلتها على مدى قرون تتناثر عليها بعض أشهر الأسماء([27]).

 

لقد توقّع «بطرس» هذا أن لا يلقى عمله في ترجمة القرآن ترحيباً من جانب زملائه اللاهوتيّين لأنّهم لم يكونوا يرون في الإسلام موضوعاً حقيقاً بالدراسة والتمحيص، بل يرونه مجرد «ظاهرة» اكتسبت طابعاً حربياً مؤقتاً لا تلبث أن تزول، شأنه شأن الحملات البربرية التي كانت تحدث بين الحين والآخر وفي كافة بقاع أوربا.

 

بيد أنّه في عمله هذا قد أرسى رؤية بعيدة المدى لصالح المسيحية. فقد كان يعتقد أن التحدي الإسلامي لم يجد إجابة مسيحية مناسبة حتّى أيامه، ولذا رأى أنّه من الضروري مواجهة هذه «الهرطقة» التي تشكل بإعتقاده الأصل والأساس لكل الهرطقات التي كانت تغزو المسيحية الأوربية آنذاك بحزم وذكاء.

 

لقد خطا «بطرس» الخطوة الأُولى في هذا الاتجاه مالم يستطع غيره أن يقوم به، وبذلك يكون قد دشّن عهداً جديداً في العلاقة مابين الغرب المسيحي والإسلام، لكنّها هذه المرة قائمة على مرتكز خطر، ذلك هو إختراق المشرق الإسلامي بسلاح آخر غير السلاح التقليدي، ولايحتاج إلى القوة في المبارزة، بل كل حاجته إلى الكلمات الرشيقة والمعلومات المفيدة.

 

وهذا ما كان يؤكّده «بطرس» دائماً، ففي آخر كلماته الموجّهة إلى المسلمين مخاطباً إيّاهم قائلاً:

 

انّني لا أهاجمكم كما يفعل كثيرون بيننا بالسلاح، انّني أوجّه إليكم كلمات فقط بغير عنف وبتعقّل وهدوء من غير كراهية وبحبّ كبير، انّني أحبّكم ولذلك أكتب اليكم!! ([28]).

التبشير مشروع جديد:

غير أن آمال «بطرس» المتعلّقة بـ«هداية المسلمين» إلى الكاثوليكية قد خابت أيضاً، إذ بقيت نداءاته إلى كافة المسلمين حبيسة اللغة اللاتينية التي لايفهموها. أضف إلى ذلك مابرزت من أوضاع جديدة في خريطة المسيحية الكاثوليكية الغربية الأمر الذي دفع «بطرس» إلى الغاء الطابع الذي أراد أن يضع النقاش فيه مع الإسلام، وتخصيص هذه المسألة في المرتبة الثانية من سلّم الأولويات الخطرة التي تواجهها المسيحية يومذاك.

 

وهذا مادفع راهب انجليزي يدعى «روجر باكون» (1214 ـ 1292م) إلى طرح مشروعه التبشيري المفصل على البابا بطريقة مباشرة ومن غير تردّد عام 1266م الذي تضمن عرضاً لحالة المسيحية، وجملة إقتراحات «خطرة» لإصلاح الحال، وسلسلة من النصائح للمستقبل.

 

لقد إستطاع «باكون» هذا وللمرة الأولى أن يضع المسيحية في موقعها الحقيقي جغرافياً وبشرياً فيقول: هناك مسيحيون قليلون في العالم اليوم، أمّا سائر الأرض المعمورة فيغصّ بالكفّار الذين لا يجدون أحداً أن يهديهم إلى طريق الحقّ! ([29]).

 

وأمّا عن علّة ذلك فيقول: لأنّ المسيحية عجزت عن القيام بتبشير حقيقي، لأنّ الأهداف الموضوعة كانت خطأ في الأصل من جهة، ولأنّ البيّنة اللاهوتية للمسيحية من ناحية ثانية كانت قاصرة. أمّا خطأ الأهداف فناجم عن شهوة السكان لدى ذوي الأمر من المسيحيّين الأوربيّين، تلك الشهوة التي حالت دون وصول محاولات الهداية إلى أغراضها، إضافة إلى كون الحروب «المقدسة» عديمة الجدوى وعديمة النجاح، لكنّها حتّى لو حقّقت انتصارات عسكرية على الأرض لظلّت عديمة الجدوى، فلم يكن ممكناً ولا في الوسع احتلال الأرض كلّها،ولو كان ذلك لأُثيرت حفيظة المستعمرين على المحتلّين بحيث تتعذر الحياة معهم، وتعذر ـ طبعاً ـ هدايتهم الى طريق الحقّ([30]).

 

ويدّعي «باكون» أنّ وضع العلاقات مع المسلمين في أيامه اكبر برهان على مايقول، ثم يضيف قائلاً: انّ المسيحية لن تنتشر وتنتصر بغير التبشير السلمي والموعظة الحسنة، غير انّ المسحيية الآن عاجزة عن القيام بمهام الدعوة والموعظة لأسباب ثلاثة:

 

الأول: لا أحد يعرف لغات الشعوب التي يراد التبشير بينها.

الثاني: لا أحد يعرف ماهية عقائد «الكفار» الذين يراد تبشيرهم.

الثالث: لا أحد يملك الحجج المؤسسة على المعرفة لدعوة «الكفار» الى المسيحية الكاثوليكية.

فأما تعلّم اللغات غير اللاتينية فعن طريق إنشاء مدارس متخصّصة يديرها ممّن يعرفون اللغات من الكاثوليك، وتهيئة كوادر مسلّطة يعتمد عليها في العمل التبشيري. وأما بالنسبة إلى ضرورة التعرّف على عقائد الآخرين وأصولها فقد دعا إلى انشاء علم جديد مختصّ بذلك. وأمّا حول النقطة الثالثة فقد دعا «باكون» الى ضرورة برمجة العمل المنظم والذكي لمواجهة خصوم المسيحية، ومؤكداً على ضرورة «تفهّم» الآخرين وإستمداد الفلسفة منهم لمعرفة مواقع قوتها وضعفها، «فعندما تتلقى المسيحية الفلسفة فسيكون بإمكانها صياغتها في ضوء الوحي، وبالتالي تستطيع أن تتحدّى الآخرين بالمنظومة الجديدة»([31]).

 

ومن هنا يمكن القول بأنّ أطروحة «باكون» كانت إيذاناً بتدشين مرحلة جديدة من إكتشاف برنامج عمل جديد وخطير لمواجهة العالم الإسلامي وحضارته.

راهب آخر:

 ثمة راهب آخر معاصر لباكون يدعى «توماس الاكويني»(1225 ـ 1274م) قد ترك ـ هو الآخر ـ بصماته الواضحة على المرحلة التالية. ولم تتضح بعد المعالم على وجود علاقة بين الرجلين، غير انّه مما لاشك فيه انّ تلاقي الراهبين في عديد من النقاط المشتركة ووقوفهما على مساحة متساوية في العديد من القضايا الحيوية الملحّة وقتذاك فانّه يمكن القول: إنّه توجد علاقة مابين الاثنين.

 

لقد كان هناك اكثر من مؤشّر على انّ كلا الرجلين قد نال حظاً وافراً من الإطلاع على الفلسفة الإسلامية، فـ«توماس» كان مطّلعاً بشكل خاص على فلسفة إبن رشد، بينما «باكون» كان متأثراً الى حدّ بعيد بفلسفة إبن سينا حتّى عُدّ عميد الفلسفة بعد ارسطو([32]).

 

وكان كلاهما قد تعرّض إلى الرهبان، وكلاهما واجه السجن بسبب آرائه الفلسفية حتّى عدّت بعض القضايا التي طرحاها خروجاً عن الدين. فانّ الكنيسة قد عدّت (219) قضية من قضايا «توماس الاكويني» الفلسفية خروجاً على الدين عام 1277م أي بعد وفاته بثلاث سنين، إلاّ إنّها عاودت فأعلنت قداسته عام 1323م فأضحى بعدها من اكبر فلاسفتها، ومازالت فلسفته اساس الدراسات اللاهوتية الكاثوليكية حتّى اليوم.

 

وأمّا «باكون» فقد اتّهم بأنّه أحدث في التفسير اللاهوتي بدعاً وخروجاً عن المذهب الكاثوليكي فسجن على اثرها عام1277م لكنّه عدّ فيما بعد من كبار الفلاسفة اللاهوتيّين([33]).

بداية الأختراق:

عند ذاك بدأ النشاط التبشيري يأخذ صفة الجدّية، فكانت أُولى الرحلات قام بها بعض الرهبان الغربيّين فقصدوا الأندلس ابّان مجدها وانضمّوا إلى مدارسها وتثقفوا في جامعاتها وتعلّموا على يد علماء الإسلام في مختلف العلوم والمعارف. وكان من بين هؤلاء الراهب الشهير «جيرار دي كريمون» المتوفى عام 1187م([34]).

 

ثم بدأ التحرك الإستشراقي ينشط أكثر فأكثر في هذا الصعيد، خاصة بعدما أرسل «فرانسوا الاسيزي» ستة من الرهبان إلى بلاد المغرب فسلكوا الطريق عبر إسبانيا وهم متنكرين بثياب التجار. وتوالت الرحلات تلو الرحلات بعدها. وفي عام 1311م حثّ «ريموندليل» المجلس العالي في فيينا على تأسيس مدارس للعربية ولغات شرقية أخرى لغرض العمل التبشيري بين المسلمين وهدايتهم الى طريق «الحقّ» والذي باشره بنفسه بإخلاص كبير([35]).

 

وتجدر الإشارة هنا انّ سرّ إتجاههم نحو الدراسات العربية فالشرقية الإسلامية، لأنّ الأُولى كانت ضرورية لفهم الثانية، والإسلام بمجموعه يعتبر الدين المنافس الوحيد للمسيحية. وبمرور الزمن اتسع  نطاق الدراسات الشرقية لتشمل أدياناً ولغات اخرى غير إسلامية.

 

وعلى صعيد العمل التبشيري الانجليزي فقد كان أمثال: «يوم بدويل» و«جون غريفز» و«آموند كاستيل» و«ادوارد بوكوك» وغيرهم منهمكين في تأسيس دراسات عربية في جامعتي اكسفورد وكمبردج([36]).

 

وأمّا على الصعيد الهولندي فقد اعتبر الراهب «ادريان ريلانت» من الاوائل الذين أخذوا يتشدقون بإستخدام الاساليب «العلمية» و«الموضوعية» في العمل التبشيري، فقد كتب مرّة يقول: لكي نأخذ الحيطة نحن المسيحيّون، وأن نتناول خلافاتنا معهم بطريقة عقلائية بحذر ولباقة، وأن نحاربهم من الآن فصاعداً بمزيد من الوضوح والعمق، وليس بعدد الإتهامات والإنكار غير المجديين([37]).

 

وها هو الأب «ماراتشي» يخطب في جمع من الرهبان والقساوسة قائلاً: من الضروري اذن ألاّ نحارب الإسلام دون أن نعرفه تماماً، وفرصة هذا الصراع الحكيم تتزايد يوماً بعد يوم بسبب العلاقات المتزايدة بين الأوربيين ومسلمي تركيا وافريقيا وفارس والهند الهولندية، حيث نرى للأسف الكثير من المسيحيّين يلطّخون المسيحية بالعار. ولاشك أنّ فرصة انضواء المسلمين إلى الإيمان «الحقيقي» هي أن نظهر لهم العطف والتفاهم في المناقشات الدينية معهم بدلاً من أن نسبّهم ونكيل الفريات بكل سذاجة([38]).

 

وبذلك إستطاع الغرب المسيحي أن يتبنّى خيارات أوسع من المواقف المتاحة لديه فيسمح بتيارات مختلفة بما فيها التيار الحضاري والتبشيري في مواقفه الموجّهة ضد الإسلام وأهله. وهذا ما حاول الإستفادة منه الاسقف المعروف «فيانتيوس وبادو» الذي أقام مدة طويلة في الشرق، وانتخب اسقفاً للفرانسيسكان الموجودين في فلسطين وسوريا وغيرهما([39]).

 

فانطلاقاً من عدّة دلائل كإقامته بين ظهراني الجيش الاسلامي، ومكوثه الطويل في هذه البلاد الاسلامية يؤكدان أنّه كان مضطلعاً بمهام ذات طابع حسّاس.

 

في هذا الصدد كتب الدكتور الدويهي يقول: في الفترة الممتدة من 1665 ـ 1745م طبع في فرنسا وحدها مايزيد عن مائة وخمسين رحلة، منها على الأقل مائة رحلة جديدة، قسم منها كبير إلى الشرق... ومّما يساعد في زيادة الإهتمام بالشرق تشجيع الوزير الأول الفرنسي «كولبير» للمسافرين عبر مدّهم بالمال واحتياجات الرحلة، وخلق أكاديمية النقوش والآداب، وإنشاء مدرسة شبّان اللغات الذين كانوا يُرسلون على حساب الملك إلى الشرق لدراسة وتعلّم اللغات الشرقية هناك([40]).

 

وعلى هذا الترتيب انطلق المخطط الجديد، وبدأ التنفيذ حينما شرع هؤلاء بالتقاطر على شكل دفعات متوالية على المنطقة الاسلامية وتحت واجهات عديدة وبأسماء إسلامية من باب توزيع الأدوار بدقة عالية.

رسائل وتقارير:

فبدأ «المرسلون» بارسال تقاريرهم ودراساتهم حول الشرق والإسلام ورموزه وعلمائه ومواقع رجاله وتواجدهم...، فبعد خمس سنوات من رحيل «روجر باكون» عن المسرح اللاهوتي وصل الغرب أُولى التقارير المشجعة على إمكانية لعب دور مهم في الشرق، والتقرير يحمل توقيع الراهب الدومينيكي «وليم الطرابلسي» الذي نزل «عكّا» وقد وجّهه للمطران «لوتيك» والمتعلق حول عقائد المسلمين وتصوراتهم، فجاء فيه: رغم انّ تصوّراتهم العقيدية مملوءة بالخيالات والاكاذيب والوساوس عليّ أن أقول: إنّ عقيدتهم بشكل عام قريبة من العقيدة المسيحية، ويبدون غير بعيدين عن طريق الحقّ والنجاة([41]).

 

بالاضافة إلى ذلك كان يتحدث التقرير عن رأي شائع ـ بزعمه ـ بين المسلمين مفاده: انّ الإسلام واليهودية مقبلان على نهاية حتمية، ولن يبقى في العالم غير دين المسيح حتّى يرث الله الأرض ومن عليها!! وانّ الإسلام لايملك بنية لاهوتية منظمة، وبالتالي فانّ الساحة مهيّأة للمسيحية في الشرق للعب دور مستقبلي([42]).

 

وفي الوقت الذي كان الطرابلسي ينتظر غروب شمس الإسلام كان هناك رحّالة ألماني يدعى «بوركاردوس دي فونت» يبعث برسائله واصفاً المسيحيّين المشرقيّين بتفاؤل مبالغ فيه، ومنتظراً قيام وحدة مع الكاثوليكية الغربية بحماسة قلّ نظيرها.

 

و«بوركاردوس» هذا كان قد تجوّل بين المستعمرات اللاتينية التي كانت ماتزال قائمة على ساحل البحر المتوسط بالمشرق، كما قد تسلّل الى الداخل وشرع بمراقبة الفلاحين المسيحيّين الذين كانوا يعيشون وسط المسلمين، وكان يكتب كل ماكان يراه أو يسمعه فيبعثه بدقة([43]).

 

وقد تسنّى لأحد المؤرّخين الغربيّين ويدعى «ريتشارد سودرن» الاطلاع على مشاهدات وإنطباعات «بوركادوس» وغيره فكتب يقول بتفاؤل كبير: انّنا هنا صورة زاهية وغنية لآسيا، فالمسيحيون كثيرون، وهم أناس طيّبون مسالمون، يكادون يكونون كاثوليكا، والإسلام ضعيف وغير منتشر، وهو يزول شيئاً فشيئاً، ويقف في مواجهة غروب كامل، وأمّا المغول فقد ظلّوا طوال نصف القرن الأخير يثيرون في الغرب مشاعر متناقضة تتراوح بين الأمل والخوف، أمّا الآن فانّ موقفهم يبدو واضحاً، انّهم الآن الأداة الالهية الحامية للمسيحية في الشرق والملاحقة للإسلام وأنصاره.

 

ويضيف في آخر كلامه قائلاً بزهو: يا لهذه الأعوام الرائعة، فالإمبراطورية المغولية المتحدة حتّى الصين تتحول قريباً إلى المسيحية، ولم يبق للإسلام الاّ أن ينسحق أو يهتدي اتباعه للمسيحية «الحقّة» عن طريق الفلسفة التي ملكتها المسيحية عن الاغريق من خلال المفكرين المسلمين، كان هذا كلّه حلماً عظيماً ورائعاً، ولو تحول في جزء منه فقط إلى حقيقة لتغير مجرى التاريخ([44]).

شواهد اُخر:

وهذه المرة هو الانجليزي «موري لاست» الذي حطّ في نيجيريا وعلى نفقة حكومته في منتصف الستينات من القرن التاسع عشر لغرض التحضير لكتابة رسالته لأجل نيل درجة الدكتوراه! وكان قد أزمع أن يدور محور رسالته حول منهجية ثورة غرب افريقيا الاسلامي التي قادها الشيخ عثمان بن فودي (1804 ـ 1906م) ونتائجها والعوامل التي ساعدت على تكوّنها ومن ثم انفجارها في هذا الجزء من القارة الافريقية. فما أن حطّ به الرحال حتّى انطلق يتعلّم أوليات اللغة العربية في احدى مدارس مدينة «سوكوتو» ولمدة سنة كاملة لأجل أن يتمكّن من قراءة وفهم تاريخ «سوكوتو» الذي كُتب أصلاً باللغة العربية. ثم جاب انحاء نيجيريا قرية قرية، ومدينة مدينة لمقابلة العلماء وزعماء القبائل المنتشرة في ربوع نيجيريا المسلمة، بل ذهب الى أبعد من ذلك، فقد سكن بين الفلاحين وعمل معهم بالزراعة بجبل قرب «غساو» تسكنه مجموعة من قبائل «الهوسا» لا لشيء الاّ للحصول على المعلومات الكافية وتنفيذ مهمّته على أحسن وجه. وكان لا يبخل بما يقدّمه من مساعدات سخيّة لهم وجميع امور معاشهم.

 

كتب الأستاذ الطيب عبد الرحيم الفلاتي يقول: وممّن رأيتهم «موري لاست» الانجليزي الذي حضر إلى نيجيريا لإعداد رسالة الدكتوراه، وقد سألته عن سبب عمله مع المزارعين وهو الطالب الذي لا هدف له الاّ تحصيل درجة دكتوراه، وأن نفقاته قد قامت حكومته على تسديدها اذن فلاحاجة إلى العمل والكسب، فقال: لأنّي توصّلت خلال بحثي وإطلاعي على منهج الشيخ عثمان بن فودي بأنّ معنى «العالم» هو الذي اكتشف جهل نفسه وذاب في خدمة الآخرين، فقد اكتشفت جهل نفسي فأريد أن أتعلّم لأخدم بني البشر!! فكتب رسالته التي سمّاها «رسالة سوكوتو» بعد أن اطلع على ألف مرجع، بما في ذلك نيجيريا والكاميرون وجمهورية النيجر وداهومي وتوقو وتشاد، واطلع على كتب من خمسين مكتبة داخل نيجيريا وخارجها فصار خبيراً بالخلافة وأسرارها الظاهرة وبنفسيات المسلمين في افريقيا عامة ونيجيريا خاصة([45]).

 

وهذا الانجليزي الآخر «ليثم وتملنسون» الذي أرسلته الحكومة البريطانية إلى نيجيريا أيضاً وليس لإعداد رسالة الدكتوراه، وانّما لإعداد دراسة  شاملة حول الدعوة الإسلامية في نيجيريا وسبل منعها. وفور وصوله انطلق في تحصيل بحثه الشامل، وحاول أن يغطي الفترة مابين 1889 ـ 1925م من تاريخ هذا البلد المسلم، وعنونه بـ«تاريخ الدعوة الإسلامية السياسية في نيجيريا» بعدما أثبت فيه أماكن وجود أنصار المهدي في السودان ووسط وغرب افريقيا ومراكزهم السياسية والإجتماعية والإقتصادية. ثم عقّبه بجملة اقتراحات عملية في كيفية تمكين الجيش البريطاني من محو آثار المهدية ومؤيّديها من السودان ومناطق وسط وغرب أفريقيا.

 

وكان قد توجّه في سبيل ذلك إلى انحاء كثيرة من العالم الإسلامي، فقد توجّه صوب تشاد والسودان وارتيريا والمملكة العربية السعودية، ورحل بإتجاه مصر وليبيا وجمهورية النيجر حتّى اتمّ بحثه الشامل، وضمّنه بأهم مراكز تواجد المهدية وأنصارهم وأسماء أقطابهم البارزين ثم ذيّله بجملة اقتراحات خطيرة قد ترجم منها الاستاذ الطيب الفلاتي، لا بأس بإيرادها هنا بهدف الإطلاع على مدى خطورتها:

 

1 ـ السيد عبد الرحمن المهدي والذين يؤيّدونه، فباختلاف الإتجاهات الإسلامية في كل أنحاء العالم فانّه من المكن إقناع الأنصار في السودان بالعدول عن منهج المهدي الثوري القتالي الدموي إلى منهج سلمي سياسي... فإذا تمّ ذلك نكون قد نجحنا في تحويل الحركة من حركة فعّالة إلى حركة سلبية، مثلها كمثل غيرها من الحركات الإسلامية السلبية.

 

2 ـ ضرورة نقل المهدية ككيان يشعر كل فرد بمسؤولية مباشرة في قيادته، إلى أسرة واحدة وهي أسرة السيد عبد الرحمن وأخوته لكي يسهل حصارها إقتصادياً وعقائدياً وسياسياً، فإذا ضعفت ضعف الكيان وإنتهى.

 

3 ـ ضرورة فرض حصار محكم على القيادات الأنصارية لتحول دونها وتربية أبنائها تربية إسلامية يمكن أن تبعث روح المهدية مرة أخرى، وذلك بإرسالهم إلى بريطانيا بدلاً من مناطق ذات نفوذ إسلامي لإعدادهم إعداداً مضطرباً ومنقاداً لبريطانيا لا ضدّها.

 

4 ـ ضرورة السخاء المادي مع هذه الأسر لكي تعيش حياة منعمة مترفة فاسدة بعيدة عن واقع المؤيّدين والأتباع، لكي يحبّوا الحياة ويكرهوا الموت الذي يطلقون عليه «الإستشهاد في سبيل الله»([46]).

 

ثم هذا الأميركي «استيورت» الذي كان يعدّ أحد المتخصّصين في التاريخ والطرق الصوفية في البلاد الواقعة شرق موريتانيا قد بذل كل ما في وسعه لدراسة منهج الفرق الإسلامية القابعة في تلك المناطق والبحث بلا كلل عن أصولها وزعمائها وأقطابها الروحانيّين والسياسيين وتدوينها بكل دقّة وإمعان، حتّى انّه قيل: قد قطع مسافات شاسعة وبذل الأموال الطائلة وتحمّل الصعاب بحثاً عن مخطوطة واحدة فقط مكوّنة من خمس صفحات لاغير!! فيها توضيح وإجابة لتساؤلاته التي ثبتها في غضون بحثه:

 

* كيف استطاع محمد پيلو (1818 ـ 1838م) إقناع معارضيه المسلمين في كل أنحاء الخلافة المترامية الأطراف لوضع أسلحتهم والجنوح للسلام؟!.

 

* كيف إستطاع پيلو كتابة اكثر من مائة كتاب في الوقت الذي كان قائداً لأكثر من (206) معارك كبيرة وصغيرة؟!.

 

وهكذا تستمر القائمة بسرد أسماء أمثال: «وليام بدويل» و«آدموند كاستيل» و«جون غريفز» و«ادوارد بوكوك» وغيرهم الذين قضوا مديد اعمارهم وهم منهمكين مع آخرين تابعين لهم في تأسيس أو تحضير دراسات عربية وإسلامية في جامعتي اكسفورد وكمبردج أو غيرهما من الجامعات الشهيرة في العالم.

 

وهذا الأخير قد ساهم مساهمة فعّالة في تنفيذ الأدوار الخطيرة التي أُنيطت به من قبل حكومته البريطانية، وقد نفّذها على أحسن وجه! فقد أُرسل إلى حلب عام (1630م) بعد عام من تنصيبه قسيساً وتخرّجه من جامعة اكسفورد، فاقام فيها خمس سنوات أتقن بها العربية على يد أحد علماء المسلمين آنذاك وهو الشيخ فتح الله([47])، وشرع فيها بكتابة دراساته وبحوثه المتعلّقة بهذه المنطقة الواقعة على حوض البحر المتوسط الإستراتيجية آنذاك، وابداء إقتراحاته الموجّهة في هذا الصعيد.

 

ولعلّ أهم نشاط قام به هو جمعه في أثناء السنوات الخمس التي عاشها في حلب مجموعة نفيسة ونادرة من المخطوطات العربية والإسلامية، ونقلها إلى استاذه «بدويل» ليضمّها هذا إلى مكتبته الخاصّة والتي أصبحت فيما بعد من أثمن محتويات المكتبة البودلية ـ نسبة إليه ـ والذي أهداها بعد وفاته إلى جامعة اكسفورد لتزيد من قيمتها ومكانتها من بين المكتبات العالمية الأخرى. وقد قيل: انّ هذه المخطوطات النادرة كانت تزيد على الألف مخطوط! وبرواية انّها قاربت الألفين، كان قد أبتدعها عن طريق الحيلة والمكر باثمان زهيدة([48]).

 

وما ينطبق على «بوكوك» ينطبق أيضاً على «وليم جونز» المتعدّد المواهب والثقافات فبالإضافة إلى كونه قانونياً متمرساً كان عالماً متقناً للغات ثلاثة: العربية والفارسية والعبرية، وكان أيضاً شاعراً كلاسيكياً وباحثاً أديباً. ولذلك سرعان ما اُسند إليه منصب المشرف العام في جزيرة الهند الشرقية، وفور وصوله شرع في اعداد دراساته وبحوثه العلمية: «قوانين الهندوسيّين والمحمديّين» و«السياسة والجغرافيا الحديثين للهند» و«أفضل السبل لحكم البنغال» و«التجارة في الهند».... وما الى ذلك([49]).

 

إنّ صفة «جونز» كأول رئيس لجمعية البنغال الآسيوية، وصفته قاضياً وأديباً كما قيل: إنّه ترجم المعلّقات السبع الى الانجليزية، اضافة الى كفاءته كقانوني مقتدر، كل ذلك اكسبته المعرفة الكاملة بالشرق والشرقيّين، والتي كان لها الدور الكبير فيما بعد أن تجعل منه «المؤسّس غير المنازع للإستشراق الانجليزي» على حدّ تعبير آي.جي.آربري([50]).

الهدف الأخطر:

ومن هنا فانّ «الوفود» التبشيرية و«الرسل» اللاهوتية لم تكن مجرد موضوع ثقافي يتمّ فيه انعكاس صور الثقافة والمدنية لدى الشعوب الشرقية ونقلها إلى الغرب، أو ميدان سياسي يصوّر الأوضاع المختلفة لمراكز قوى الآخرين من غير الغربيّين، كما انّها لم تكن مجموعة رحّالة تبغي نقل النصوص المختلفة حول الشرق وأديانه وأحواله فحسب، بل هي مجموعة أعمال أشبه ماتكون بموسوعة ضخمة تضمّ بين دفتيها مجموعة هائلة من البحوث الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والتاريخية والفقهية واللغوية، ومطالب واسعة تتعلّق بالشؤون الجغرافية والسياسية والسياحية تلبّي حاجات كل الدوائر الغربية والمؤسسّات ذات العلاقة لتنفيذ ما يناسب حماية المصالح الحيوية للغرب المسيحي.

 

ولكن الأخطر على هذا الصعيد هو ميادين التربية والثقافة، لأنّ محاولة إحتوائهما يعني احتواء مستقبل الأمة، وإلغاء كل نسق فكري إسلامي أصيل من ضمير الأجيال القادمة.

 

في هذا الصدد يقول الدكتور الدسوقي: لقد نشب الصراع الفكري بين طائفة من المسلمين وبعض المستشرقين، وقد ظهرت كتابات منذ نحو قرن تحذّر مما يخطّطه الاحتلال بواسطة التبشير وإن جاءت في صورة ردود على هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا النيل من الإسلام وثقافته وصلاحيته الدائمة للتطبيق، ولكن هذا الصراع وإن نبّه إلى الخطر لم يحل دون بلوغ الغاية التي في ميادين التربية والثقافة، فقد تخرّجت أجيال في ظلّ نظام تربوي له فلسفته المادّية لا تلتقي مع فلسفة التربية الإسلامية، ونجم عن هذا ظهور ما يسمّى بالثنائية الفكرية وما تمخّض عنها من تمزّق ثقافي أتاح الفرصة لكل الاتجاهات السياسية والإقتصادية والإجتماعية الوافدة والداخلية أن تجد لها أنصاراً يؤمنون بها ويدافعون عنها ممّا ضاعف من حدّة الصراع بين التيارات المتناقضة في المجتمع الإسلامي وتبديد طاقاته فيما لايعود عليه إلاّ بمزيد من الضعف والتبعية([51]).

وهذا ما يلاحظه المتتبّع لأدنى قراءة في مسار الصراع بين الطرفين.

قراءة سريعة في مسار الصراع:

لنلقي نظرة سريعة على مجمل خريطة المواجهة بين الإسلام والغرب في المرحلة التي أعقبت الحروب الصليبية، لتتّضح الرؤية بإتجاه ماحصل عليه الغرب وكسبه جراء استخدام منظومته الاختراقية الجديدة والتي عبر عنها أوضح تعبير الجنرال «اللبني» اثناء احتلاله القدس عام 1917م حين قال: الآن انتهت الحروب الصليبية!.

 

* سنة 1291م انكفأ الصليبيّون نهائياً عن الشرق بعد الفشل الذريع الذي لحق آخر حملاته الشرسة.

 

* سنة 1392م العثمانيون يفتحون صربيا.

 

* سنة 1453م استأنف المسلمون حركة الهجوم المضاد عندما اسقطوا القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.

 

* سنة 1482م العثمانيون يفتحون الهرسك.

 

* سنة 1492م أجهز المسيحيون الإسبان على آخر خط دفاعي إسلامي في الاندلس وهو مدينة غرناطة، وبسقوطها خُتم الوجود الإسلامي السياسي والعسكري في شبه الجزيرة الأيبرية.

 

* سنة 1639م الانجليز يصلون إلى «مدراس» الهندية.

 

* سنة 1655م الهولنديون يحتلّون «جاوة».

 

* سنة 1664م حطّ الفرنسيون رحالهم في الهند.

 

* سنة 1683م فشل حصار فيينا الذي أقامه الأتراك وتقهقرهم.

 

* سنة 1699م الدولة العثمانية تتخلّى عن المجر وترانسلفانيا.

 

* سنة 1704م الانجليز يحتلّون جبل طارق.

 

* سنة 1708م معاهدة تجارية بين فرنسا وايران.

 

* سنة 1717م سقوط بلغراد نهائياً.

 

* سنة 1740م تجديد الإمتيازات الفرنسية الاكثر حيوية مع الدولة العثمانية.

 

* سنة 1798م الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت.

 

* سنة 1800م الحماية الانجليزية على حيدرآباد الهندية، وإحتلال اندونيسيا بيد الهولنديّين.

 

* سنة 1809م معاهدة ايران مع الانجليز.

 

* سنة 1830م فرنسا تحتلّ الجزائر.

 

* سنة 1857م نهاية الحكم المغولي في الهند وخضوعها إلى الاحتلال الإنجليزي.

 

* سنة 1860م التوسّع الروسي في الأراضي الإسلامية.

 

* سنة 1882م إحتلال الانجليز مصر.

 

* سنة 1897م إحتلال الانجليز السودان.

 

* سنة 1909م استقلال بلغاريا عن الدولة العثمانية.

 

* سنة 1912م الحماية الفرنسية على مراكش واندلاع حرب البلقان.

 

* سنة 1914م إندلاع الحرب العالمية الأُولى للإجهاز على تركة «الرجل المريض».

 

* سنة 1917م دخول جيش الحلفاء بيت المقدس.

 

* سنة 1924م إلغاء الخلافة العثمانية نهائياً.

 

* سنة 1948م إنشاء «الدولة» الصهيونية في فلسطين([52]).

إهتمام متزايد:

انّ متابعة هذه المسارد التاريخية  تعطي إنطباعاً لاشكّ فيه بأنّ الإهتمام الغربي بالشرق الإسلامي كان سياسياً بالدرجة الأُولى، والمتمثل بإحتلال الشعوب وإمتصاص خيرات أراضيها وهذا ما لم يمكن تحقيقه بالحملات العسكرية فمالوا بإتجاه التخطيط بإسلوب ماكر يقوم على اساس ممارسة إحتواء الشعوب ثقافياً من خلال إلغاء نسق تفكيرها الأصيل وإحلال الفكر الغربي المستورد محلّه; لتأمين الجبهات المقاومة وخلخلة المواقع الداخلية للدولة الإسلامية، وبالتالي اكتساحها بأقل خسائر ممكنة.

 

ولذا لم يعد سرّاً تلك العلاقة الوطيدة بين التبليغ الثقافي الذي تقوم به العناصر التبشيرية والإستعمار. بل يمكن القول بأنّ هذه العناصر أصبحت الأداة التي من شأنها «اصلاح» الطريق أمام عجلة الإستعمار الذي سعى دوماً بإتجاه الأماكن التي تكثر فيها الخيرات.

 

ولم تكن هذه العناصر لتصل إلى مواقعها لو وجدت «الحصون» المقاومة بوجهها، لكنّها مرّت وتحت ستار مزيّف وباسماء مختلفة كالبحث الاكاديمي أو طلب العلم في الجامعات الإسلامية وغيرها، حتّى أنّ منهم من تسنّى له الأمر أن أصبح عضواً في المجامع العلمية الإسلامية، وإستاذاً بارزاً في المحافل الحوزوية الدينية.

 

كتب الدكتور الدسوقي يقول: وقد دأب هؤلاء على ديدنهم في الطعن بالإسلام وتعاليمه، وممّا ساعدهم على نشر مايريدون أمران: تظاهر بعضهم بالإسلام، وماتمتعّوا به في الحكم الإسلامي من حرّية علمية([53]).

 

وما أجمل ما خطّت يراعا الدكتور محمود الديب وهو يتحدث عن الضرر الحاصل جراء «الهجمات» الثقافية التي يقوم بها الغرب ضد الأمة الإسلامية حيث يقول: لم تقتصر أهدافهم على حماية المسيحي الأوربي من إعتناق الدين الإسلامي الحنيف، وإنما تجاوزت الى محاولة إلغاء النسق الفكري الإسلامي، ومحاولة تشكيل العقل المسلم لممارسة هذا الدور، والتقدم بإتجاه الجامعات والمعاهد ومراكز الدراسات والإعلام والتربية في العالم الإسلامي، لجعل الفكر الغربي والنسق الغربي هو المنهج والمرجع والمصدر والكتاب والمدرّس في كثير من الأحيان([54]).

حملات تشويه:

ذلك لأنّ الإسلام بمجموعه يشكّل تحدياً دينياً وفكرياً وسياسياً وثقافياً بارزاً للمسيحية واليهودية معاً، ويحتل موقعاً واسعاً ومتحركاً على كل المستويات، ولو قدّرت له السلطة على العالم الرحب لتوقفت المسيحية عن مسرح الحياة كقوة سياسية منظمة في العالم، وأُلغيت اليهودية عن الوجود كقوة إقتصادية هائلة في هذا العالم. وهذا ما دفع الدوائر الغربية والمراكز الصهيونية العالمية إلى استخدام كافة الطرق والإمكانات ليس لصدّه والحدّ من انتشاره عقائدياً فحسب، وإنما لطمس معالمه وآثاره والعمل على محوها أو تشويهها في شتى المجالات.

 

وقد سجّل «هاكليوت» رحلات التجّار الغربيّين إلى الشرق في كتابه المعنون بـ«الملاحة الأساسية» عام 1946م، ونقل وصفهم للمسلمين العرب في رسائلهم وتصوّراتهم عنهم على أنّهم شعب خطر، فظّ، عدائي، لايظهر المودّة للمسافرين، فضلاً عن تسجيله لحكايات غريبة وعجيبة عن العرب من نسج خيال هؤلاء الرحّالة([55]).

 

فحملات التشويه الهائلة التي يمارسها الغرب في هذا الصعيد وإن أصبحت لغة الاختراقيّين الجدد تقودها الإستراتيجية التبشيرية الحديثة، فانّ هذه الحملات قد قادها التعصّب الأعمى من قبل إشتعال فتيل الحروب الصليبية.

 

إذ لا يمكن لأحد أن ينسى أو ينكر كيف تعرّض الاسلام لهجوم منظّم منذ بداية انتشاره باقلام المؤرّخين البيزنطينيّين وعلماء اللاهوت من النصارى من أمثال: يوحنا الدمشقي، تيودور أبي قرّة، إيليا عبد المسيح الكندي،... وغيرهم من الرهبان الغربيّين ابتداءً من القرن الثاني عشر وحتّى يومنا هذا([56]).

 

ولم تنس الدوائر الغربية المسؤولة على هذه الحملات بدفقها بجملة تبريرات بين الآونة والأخرى وباقلام متنوعة لغرض تأمين الأرضية الكاملة لمسير الحملات  بالصورة الصحيحة.

 

فها هو الأب «آرنست رينان» يكتب مبرراً تلك الحملات  فيقول: انّ هذا العلم العربي وهذه الفلسفة لم تكن إلاّ ترجمات ركيكة للعلم والفلسفة اليونانية، فما أن استيقظت اليونانية الأصيلة حتّى أصبحت هذه الترجمات الهزيلة بغير ذات موضوع، لذلك قام فلاسفة عصر النهضة بشنّ هجوم عليها في شكل حرب صليبية حقيقية!([57]).

 

وهكذا يدّعي م. روى: بأنّ إستعمار الجزائر انّما هو بسط القانون ومنافع المدنية على السكّان الهمجيّين، وأقرب إسلوب عقلي لهذا هو أن يتمّ عن طريق الإستعمار المسيحي والمدنية الدينية([58]).

 

وعلى هذا المنوال استمرّت الجهود المضنية لإختراق الإسلام وتدميره، وبهذا يكون المشروع الصليبي قد أصبح جاهزاً يقوده فكر واحد وأهداف واحدة، ويرعاه منهج واحد، وتدفعه شعارات مختلفة لقضية واحدة هي القضاء على الإسلام وأهله في النهاية باسم الله والنورانية المسيحية.

 

وغير خاف أنّ كثيراً من الدواعي الدينية والنفسية والسياسية تكمن وراء هذا الموقف، ولكنّها جميعاً «تنبثق من الشعور بأنّ الإسلام لايمثل منافساً رهيباً فحسب بالنسبة إلى الغرب، بل انّه يمثل كذلك تحدّياً متأخّراً للمسيحية» على حدّ قول ادوارد سعيد([59]).

أيديولوجية صليبية واحدة:

وفيما كانت الدوائر الغربية الأوربية ـ الاميركية والمراكز المتعلّقة بأصحاب القرارات السياسية الغربية يستقون من ايديولوجية صليبية واحدة، ويقرؤون في خارطة سياسية وإقتصادية وإجتماعية واحدة داخل غرفة عمليات «البابوية» الواحدة، فقد استمر الخوف من هذا الدين حتّى بعد أن دخل العالم الإسلامي مرحلة «الانحدار» و«التقهقر» ودخلت أوربا واميركا مرحلة «النهضة» و«التقدّم».

 

فعالم الإسلام أقرب إلى أوربا من كلّ ماعداه من الأديان غير المسيحية، وقد أثار هذا القرب والجوار ذكريات «الاعتداء» و«الإحتلال» و«المعارك» الإسلامية ضد أوربا وحلفائها المسيحيّين كما «أنعش في الذاكرة دوماً قوة الإسلام  الكامنة والمؤهلة لإزعاج الغرب وحلفائه المرّة تلو المرّة»([60]).

 

ولأجل مواجهة هذا الموقف لابدّ من التفكير الجدّي، وبإستخدام الأساليب الحديثة لتبديد هذه المخاوف التي تعشعش في الذاكرة الغربية، وإزالة كابوس هذا الإزعاج المستمر الذي أقضّ مضاجع أصحاب القرارات الحسّاسة من الغربيّين والأميركيّين. وكل ذلك يتطلب التفكير العميق والمدروس بكيفية تهيئة السبل المناسبة التي ينبغي إتباعها لبلوغ الهدف المنشود. وهذا ما انبرت له غرفة العمليات وشرعت فيه لاحقاً، فكان الإختراق الكبير ضمن اللعبة الكبرى التي تمّت فصولها على مسرح المشرق الإسلامي.

 

وهكذا نجد انّ الغرب ظلّ متشبّثاً حتّى النهاية بموقفه المعادي للإسلام، بل هو أسير هذا الموقف حتّى هذه اللحظة. ورغم انّ الحروب الصليبية قد وضعت أوزارها فانّ الغرب لم يتزحزح قيد أنملة عن موقفه الثابت هذا.

 

وإذا بدا لبعض الكتّاب انّ الغرب قد فتح صفحة جديدة كما يدّعي، فانّ حقيقة الأمر تؤكد انّ ما حصل هو أنّ الدوائر المعنية الغربية قد أعادت النظر في أساليب المواجهة ليس إلاّ، وهي حقيقة معروفة لكلّ متتبع أو باحث منصف.

 

فالرؤية الإستراتيجية العامة ظلّت كما هي، وبكل ثوابتها وخطوطها العريضة، غير أنّ التكتيك هو وحده الذي اختلف عما كان سابقاً، وآلية المواجهة فقط هي التي تغيرت.

الحرب الثقافية:

لقد وجد الاوربيون انّ خير طريق لغزو العالم الإسلامي واخضاعه هو سلوك الغزو الثقافي، فوضعوا المخطّطات والبرامج الدقيقة في هذا الصعيد، وحاكوا المؤامرات للغارة على الافكار والمفاهيم الإسلامية وعلى كل ما له صلة بالإسلام حضارةً وفكراً، وأضحت قاعدتهم التي أرتكزوا عليها هي «إذا أرهبك عدوّك فافسد فكره ينتحر به ومن ثم تستعبده» فإنتقلت المعركة من ساحة الحرب إلى ميدان الفكر والثقافة([61]).

 

كتب المؤرّخ البريطاني المعروف أ.ج. تايلور يقول: إنّ أوربا استنفدت الكثير من الوقت قبل أن تبدأ مسيرتها الصحيحة، إنّ استباقها على الحضارات غير الأوربية لم يبدأ الاّ في القرن السادس عشر حين خسر المسلمون الأندلس، أمّا انتصارها النهائي فتحقّق في القرن العشرين فقط([62]).

 

وما بين تلك البدايات وهذه النهايات المفجعة دار الزمن دورته الكاملة، وتغير وجه التاريخ بعدما شهدت الديار الإسلامية جملة من التداعيات المؤلمة على اكثر من صعيد دفعتها نحو هاوية السقوط، في الوقت الذي كان فيه العديد من «المغامرين» و«الرحّالة» يتسلّلون في عقر هذه الديار، وينفذوا أهدافهم التي أُرسلوا من أجلها، ويحقّقوا بالتالي انتصارهم «النهائي» ـ على حدّ تعبير تايلور ـ ويعزّزوا منطقهم الذي يقول بضرورة هيمنة «الرجل الابيض» على التاريخ وتحكّمه في مساراته.

 

وازاء هذه التحولات وجدت «البابوية» مصلحتها في تجنيد الآراء اليسوعيّين للقيام بالحملات التبشيرية بصفتهم خير مدافعين عن الكاثوليكية والموافقة مع إستراتيجية السياسة التوسعية الغربية.

 

يقول الاسقف «دي ميستيل» وكيل ادارة البعثات التبشيرية في الشرق بروما بصراحة:

 

انّ الهدف الذي يتعيّن على المبشّر تحقيقه هو تحطيم قوة التمسك الجبارة التي يتمتع بها الإسلام، أو على الأقل إضعاف هذه القوة. وإنّ على المبشّر أن يدرس ويتفهّم قرآن محمد ليعرف كيف يذكّر الناس في الشرق بانّه كانت هناك مدنيّة سابقة على الهجرة، وأنّها كانت مدنيّة مسيحية([63]).

 

وفي ظلّ هذا الوضع الجديد عمل كل من «السيد» المسيحي الجنتلمان والمبشّر المسيحي «السفير» على التأثير بطريق مباشر أو غير مباشر في مجرى التعليم في البلدان الإسلامية بالتعاون مع «الكوادر» المنافقة من المسلمين في تخريج عدد لابأس به من المتخصّصين في العربية والفارسية والتركية الذين اتخذوا مواقع مهمة في البلدان الإسلامية، سواء على الصعيد السياسي أو الاكاديمي([64]).

 

يقول الاستاذ مالك بن نبي: إنّه لمن الواضح أنّ المستشرقين القدماء أثّروا وربما لايزالون يؤثرون على مجرى الأفكار في العالم الغربي دون أيّما تأثير على أفكارنا نحن المسلمون، إنّ ماكتبوا كان قطعاً المحور الذي تحرّكت حوله الأفكار التي نشأت عنها حركة النهضة في أوربا، بينما لانرى لهم أيّ تأثير فيما نسمّيه النهضة الإسلامية اليوم([65]).

 

قد يفهم من كلامه أنّه يحسن الظنّ بالاختراقيّين، لكنّه يؤكّد فيما بعد أنّ الإنتاج الإختراقي الغربي بما فيه المادح لحضارتنا الإسلامية كان شرّاً على المجتمع الإسلامي، ومايزال يواصل دوره التخريبي التدميري بشكل مباشر أو غير مباشر. وهنا يؤاخذ دور «المشارقة» كما يحبّ أن يسمّيهم المتتلمذين للمستشرقين لأنهّم يخفون عملهم التخريبي ضد الإسلام ومصالحه الحيوية بإيعاز واضح من أوساط إستعمارية وتحت رداء تقدّمي أجوف، تحاول سلب كل قيمة حضارية، بل تنسب له حالة التخلّف الراهنة في العالم الإسلامي([66]).

الإجراءات اللازمة لمواجهة الهجمة الثقافية:

لايخفى على كل باحث أنّ الإسلام يملك من العوامل المقاومة الذاتية التاريخية الشيء الكثير بسبب تملكه من الأساليب العقائدية والفطرية التي جعلته يكتسب نوعاً من «المناعة» الذاتية ما يمكنه لمقاومة موجات التخريب التي يتعرّض لها باستمرار من قبل الغربيّين وعملائهم التابعين لهم.

 

ففي كل مرة تتحرّر بعض تلك القدرات الكامنة في بعض بقاع الأرض الإسلامية لتفاجىء الغرب وكل تقنياته المتطورة بعوامل جديدة من الثورة والإنتفاضة والتصدي، كالذي حدث في ايران وفلسطين والعراق ولبنان والبوسنة والهرسك والشيشان.

 

وهذه بلاشك احدى الألطاف السماوية التي أفاضها سبحانه وتعالى على هذه الأُمة المرحومة بفضل دعوات نبيّه الكريم(ص) لها.

 

ولكن هذا لا يعني القعود وترك القدر يأخذ مجراه من دون أن نحرّك ساكناً، لأنّ الله سبحانه يقول في محكم كتابه الكريم: (إنّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم) ([67]).

 

لذا فلابد من اتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهة هذه الموجات الشرسة ومحاولة إحتوائها بما أمكن من الوسائل الحاضرة:

 

ولعلّ من أبرز هذه الإجراءات اللازمة:

1 ـ توعية الناس ثقافياً من خلال العمل على رفع المستوى الفكري لأبناء الأُمة المسلمة، وإشاعة القيم الفكرية الحقيقية التي يتبناها الإسلام، وإثارة الوعي العام حول القضايا الراهنة، على أن تكون التوعية بدرجة تمكّن الفرد المسلم من التمييز بين الثقافة الإسلامية الأصيلة والدخيلة، وبين ما هو حقيقة دينية سامية وخرافة مبتدعة. إذ بدون هذه الدرجة من الوعي ستنطلي مؤامرات التزوير التي حاكتها وتحوكها الدوائر المعادية عليهم.

 

وليس أدلّ على ذلك مما تمارسه الجماعة التي تطلق على نفسها «حركة الطالبان» من عمليات تزوير واسعة لحقائق ووقائع الإسلام الحنيف، وهو ما لايخفى على كل متتبّع بسيط.

 

فالوعي الحيّ يمدّ الأُمة بعوامل نجاح المشروع الإسلامي الذي يتبنّى مقاومة الهجمات الثقافية الشرسة التي تشنّها المراكز الإستعمارية البغيضة على حضارتنا الإسلامية.

 

أضف إلى ذلك أنّ بثّ التوعية يعتبر من أبرز مهام المثقف الرسالي الذي ينهض بدوره هذا إنطلاقاً من المسؤولية التي عهدها الله سبحانه له. وهذا الدور ليس بالسهل، إذ انّه يتطلّب من المثقف الرسالي:

 

أ ـ التسلّح الذاتي بعوامل المقاومة الثقافية المستمدة من روح العقيدة الإسلامية السامية.

 

ب ـ الإطلاع الواسع على الأحداث الجارية على مسرح الحياة السياسية ومحاولة تفهمها وربط خيوطها مع بعضها البعض.

 

ج ـ توطين النفس على الاخلاق الكريمة.

 

د ـ التوافر على آليات قادرة على تعزيز القوة على الإستمرار والمضيّ حتّى النهاية.

 

2 ـ مدّ الأُمة بالغذاء الروحي والمادي على نطاق واسع لتشمل جميع الأفراد في المجتمع الإسلامي، وخاصة الطبقات الفقيرة الذين تعتبرهم الدوائر الإستعمارية المعادية «المساحة التي يمكن أن تجري فيها عمليات البحث عن الانصار والمحبّين»، ومنحها الأولوية في الدعم والمعونة المناسبة والعمل على سدّ احتياجاتها اللازمة.

 

وذلك لأنّ تلك الدوائر لايمكنها أن تصطاد في المياه العكرة، لكنّها تستطيع ذلك بسهولة فيما لو قامت بالإصطياد في المياه السلسة. ومن هنا كان الواجب على مثقفي هذه الأُمة وعلمائها الروحانيّين توجيه إهتماماتهم بإتجاه هذه الطبقات المحرومة وكسب محبّتهم لكي يوجدوا فيهم بعض المناعة اللازمة لمقاومة عمليات «الأصطياد» المشبوهة.

 

3 ـ الإلتزام بالخطّ التربوي الإسلامي الأصيل في كلّ برنامج تعليمي يوضع لتنشئة الجيل الجديد الذي يمثل مستقبل الأُمة وأملها المشرق.

 

فالخطوة الأُولى تبدأ بتأسيس منهج تربوي إسلامي يستوعب هموم ومشاكل الجيل المعاصر الحديث، والخطوة الأخيرة تعتمد إجراء الاحصاءات الميدانية اللازمة التي تستكشف من خلالها مديات التفاعل بين الوسط الشبابي اليافع ومفردات المنهج التربوي المدوّن بلغة العصر الحديث، وما بينهما من خطوات ينبغي أن تخصّص في ممارسة النقد الإيجابي لغرض تقويمه وتطهيره من كل «العوالق» الدخيلة به.

 

وهذا يتطلّب العودة إلى القراءة الصحيحة القائمة على أسس محدّدة لأجل تحديد وتشخيص نقاط الضعف لكي يتمّ حذفها وإستبدالها بعناصر القوة المطلوبة.

ومن أهمّ هذه الأُسس:

أ: إعادة النظر بالمفردات المطروحة للمناقشة، وعدم إهمال عنصر الزمن والحداثة اللازمين لتطلعات الإنسان المعاصر من خلال إنتخاب اللغة المناسبة والمفاهيم الحديثة دون الإبتعاد عن الأصالة الإسلامية السامية.

 

ب: التخلّي عن أسلوب الجدل والحشو والإطالة في بيان متون المناهج التربوية، بل ينبغي أن يكون الدليل والعقل هما الرائدين فيها. وبهذا نقطع الطريق على النوازع الشيطانية الكامنة في النفس الإنسانية من المرور عبرها بصورة خرافة أو بدعة وماشاكلهما.

 

ج ـ إدخال الجيل الجديد طرفاً في المعادلة، وعدم إهمال تطلّعاته المستجدّة ليعيش الإسلام خلال ممارسات حياته اليومية.

 

د: إبقاء العقيدة الإسلامية حيّة وفاعلة في نفوس أوساط الشباب من خلال إستشعارهم بوجود الله سبحانه وتعالى دائماً. فليست أزمتنا العقيدية في إثبات الخالق عزوجل وإنما في إستشعار وجوده تعالى بيننا. ولذا نرى أكثر الشباب المسلم يرتكب المعصية مع إيمانه بالله تعالى.

 

هـ ـ تقديم أجوبة شافية وكافية للتحديات التي تواجه الجيل اليافع اليوم مع مراعاة التطورات المذهلة على صعيد العلم والتكنولوجيا الحديثة، اضافة الى ما تشهده من ثورة المعلومات الممتدة في جميع البلدان، وما أعقبها من تحولات على مستوى الثقافة والفكر والعقيدة.

 

و: نبذ الجمود على فهم السلف للعقيدة والفكر الإسلاميين، إذ انّ لكل زمان ظرفه، وفهم السلف كان يتناسب مع حاجاته الفكرية والثقافية والعقيدية، وجيل اليوم له تطلّعاته وتحدياته ومشاكله، إضافة الى حالة سوء الفهم لحقيقة الإسلام الذي عزّزه الأعداء في اذهان هذا الجيل. والعقيدة الإسلامية معين حضاري وثقافي وفكري لاينضب، فيمكن أن نعيد قراءتها وفهمها في إطار واقعنا وهمومنا الحالية والمستقبلية بالإستفادة من معطيات العلوم والوسائل التقنية الحديثة في دراسة أو كتابة مفردات الثقافة الإسلامية الاصيلة في ضوء التطور الحاصل في حقل العلوم والمعارف الإنسانية، لأنّ في ذلك ضمان لديمومة الفكر والعقيدة الإسلاميين وسلامتهما من كل سوء يراد بها.

 

4 ـ التكاتف والتعاون بين مختلف شرائح المجتمع الإسلامي المهنية والإجتماعية والثقافية في مجال التخطيط ووضع برامج العمل وتنفيذها في هذا الصعيد. وذلك لأنّ الدوائر الغربية المعادية قد استنفرت كل قواها، ونشرتها على مساحات واسعة بحيث شملت كل قطاعات المجتمع وطبقاته المختلفة، ولذا فانّها تعتبر مواقع «متحركة» ونشطة مما تشكل خطورة على اكثر من صعيد. ومن هنا تبرز أهمية التكاتف في العمل بين المتصدّين في مواجهة هذه المواقع مع مشاركة الناس ضمن هذا الهدف المقدس.

 

فاذا ما تسنّى للفقيه من ممارسة نشاطه في هذا المجال ضمن دائرة تماسّه، والكاتب في نطاق وظيفته، والمعلم ضمن حلقة درسه وعلاقته بالطلاب المبنية على المحبّة الأبوية والعاطفة الشريفة... وهكذا القاضي والتاجر والمفكر والشاعر و..و.. فستشتعل الرغبة ـ لا محالة ـ لدى الناس العوام لا شعورياً بالمشاركة والحركة بإتجاه الدفاع عن قيمهم الدينية وعقيدتهم التي ولدوا عليها على قدر إمكانياتهم المحدودة وفق ما تمليه عليهم مشاعرهم الدينية وإحساساتهم التي فُطروا عليها، فيسدّوا الأبواب والنوافذ بوجه كل ريح تنبعث من طرف العدوّ وهي محملة بالأتربة التي تضيق النفس بها، ويمنعوا من دخولها في البيت الإسلامي الشريف.

 

5 ـ الإستفادة من وسائل التبليغ والدعاية في مواجهة أجهزته الدعائية ومقابلتها بنفس العوامل التي يمكن أن يستفيد منها في تعرّضه لأُمتنا المسلمة، بل وينبغي العمل على تطويرها وتسخيرها في هذا الصعيد:

 

أ ـ المحطّات المرئية والمسموعة عبر القنوات المحلية والفضائية في بثّ  برامجها المخصّصة والموجّهة في هذا المجال، يقوم بها كادر متخصّص يتمتّع بكفاءة عالية في هذا المضمار قادر على التصدي لكلّ محاولات الأختراق والتجاوز الذي يمارسه الغرب، ومايمكن الإستفادة منه عبر هذا الطريق.

 

ب ـ السينما التربوية الهادفة، لما تشكل من «موقع» ينشده الشباب باستمرار، فيمكن الإستفادة من هذه الوسيلة في تصوير الصراع الثقافي والحضاري الشرس  بين الغرب والإسلام بين حضارة مادّية دخيلة تتّسم بالعدوانية واحتواء «الآخرين»، وحضارة أصيلة ناصعة تتميز بإلتزامها بتعاليم السماء السمحاء وتدعو إلى المحبة والألفة وحوار الحضارات.

 

إنّ السينما الموجهة يمكن أن تشكل عاملاً فعّالاً وذات أثر بارز في الأوساط الشبابية اذا ما اشرفت عليه ثلّة مؤمنة تتمتع بكفاءة بالغة في الإستفادة من هذه الوسيلة في تعريف قيم الإسلام الصحيحة، وتقدّميته، وصلاحيته في كافة الميادين الى الوسط الشبابي المتعطش بلغة عصرية محبّبة.

 

ج ـ الصحف والمجلاّت المخصّصة والمنوّعة، وما تلعبه من دور كبير في ابراز الحقائق التي سعت الدوائر الغربية البغيضة وحليفاتها الى طمس معالمها أو حذفها من قائمة تشكيلات هذه الأمة وإلصاقها على أنّها من نسق حضارتهم الدخيلة.

 

د ـ كتابة الكتب والنشرات الدورية، ومحاولة تعرية الحملات التي تتعرّض لها الأمة، وتجريدها من كل مبرراتها المفتعلة، وكشفها على حقيقتها، والغاية التي قامت من أجلها، وذلك لما في «الكتاب» من مساحة واسعة من إفراز الحقائق وتصنيفها بالإسلوب العلمي المشوّق وباقلام ممّن تشدّ لهم الرحال. وبذلك يلعب «الكتاب» دوره التربوي والثقافي التعبوي في مجالات التوعية وبثّ المعرفة وتنوير الأجيال المسلمة من خلال وضع الحلول المناسبة لكل العقبات التي تصادفها، وتعزيز روح التعاون على صعيد تبادل الخبرات في هذا المضمار.

 

هـ ـ صلاة الجمعة والجماعة اللتان تقاما في جميع مساجد المسلمين المنتشرة في ربوع البلاد الإسلامية، ومواسم الحج الإبراهيمي حيث التجمع العالمي الكبير لمسلمي العالم في بقعة محدّدة يمكن أن تأتي اُكلها لو تمت وفق برنامج توجيهي منظم يقوم على أساس متكامل من التخطيط الصادر عن أهل الخبرة والمعرفة في مجالي التربية والإعلام.

 

و ـ إقامة المؤتمرات الدورية للبحث والمناقشة في هذا الصعيد، حيث لايخفى ماتلعبه من دور حيوي كبير في دفع حركة التصدّي والمقاومة خطوات بإتجاه الامام. ويتجلّى هذا الدور في:

 

* برمجة العمل وتنظيمه وفق منظومة مشتركة فيها أطراف إسلامية عدّة.

 

* فسح المجال امام «الآخرين» من المساهمة في وضع خطّة عمل أو تقديم اقتراح مثمر في هذا المضمار.

 

* توجيه الأمة توجيهاً حيوياً وفعّالاً نحو النقاط الاكثر حساسية في الساحة الإسلامية، والدعوة إلى حلّها حلاً منطقياً قائماً على ضوابط متفق عليها.

 

* تهيئة الأجواء اللازمة لمشاركة كافة افراد المجتمع على اختلاف ثقافاتهم وطبقاتهم الإجتماعية والفكرية في عملية «التفكير» وايجاد الحلول المناسبة لمشاكل الأُمة وهمومها، مما يساعد على تصوير المشكلات تصويراً وافياً وواضحاً فيزيد الإندفاع الشعبي  العام بإتجاه تحطيم «الحواجز» النفسية والإجتماعية المانعة الى حدّ ما من المشاركة الفعلية لهذه الطبقات في المواجهات المصيرية.

 

* تأكيد الوحدة المطلوبة، وتعزيز التعاون والتكاتف بين الأطراف الإسلامية لغرض وضع الحلول ورفع العقبات المانعة بإسلوب جماعي رحب.

 

ذلك لأنّ العدو البغيض أول ما اهتمّ قضية الوحدة بين المسلمين، وقد بذل الجهد والمال في سبيل إبعاد المواقف المشتركة عن واقع المسلمين السياسي والفكري والإجتماعي والثقافي، وتكريس حالة الخلاف والتفرقة بينهم لأجل ضمان المناخ المناسب لتمرير مخطّطاته عبره.

 

وهذا ما يؤكّده الصهيوني بن غوريون حينما قام خطيباً أمام أعضاء الكنيست فقال: إنّ الوحدة الإسلامية نائمة، ولكن يجب أن نضع في حسابنا أنّ النائم قد يستقيظ! ([68]).

 

فالوحدة الإسلامية اذن من الممنوعات السياسية لدى المراكز الإستكبارية والدوائر الصهيونية التابعة لها، والتقارب بين المسلمين يمثّل خطّاً أحمر في السياسة الدولية الغربية القائمة على معادلات خاصّة تؤكّد أهمّية إسقاط مصالح المسلمين لحساب مصالح الغرب. الأمر الذي جعل «الوحدة» بين الجماهير الإسلامية في مختلف البلدان عنواناً كبيراً في ساحة الصراع بين الاسلام والغرب المستكبر.

أهمّية إقامة مؤتمرات الوحدة الإسلامية:

لم تزل مؤتمرات الوحدة الإسلامية الدورية التي تقام كل عام في طهران تلعب دوراً بارزاً على مستوى الممارسة العملية في معالجة التحدّيات الجديدة التي تواجه الأمة من خلال تعزيز الدور الوحدوي القائم على اساس المحبّة والوئام بين الأطراف الإسلامية، وبذل الجهود على إيجاد الواقع المطلوب الذي يحتضن الوحدة ويداوم على «حياتها» من أجل ضمان سلامة المواقع الداخلية، وتوجيه كافة الإستعدادات والقدرات المختلفة لمواجهة الإختراقات الثقافية المتعدّدة الاهداف والأغراض.

 

إنّ تعزيز الوحدة الإسلامية مطلب هام على اكثر من صعيد، لأنّه بفضله تتهيّأ الأجواء الصالحة لممارسة العمل بشكله الواسع الذي أخشى مايخشاه الأعداء من حدوثه بأيّ حال.

 

ومن هنا كانت دعوة المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية إلى إقامة المؤتمرات الإسلامية الوحدوية، وتشكيل اللجان التابعة لها، في سبيل طرح المسائل ذات العلاقة بالوضع الإسلامي الراهن على مائدة المناقشة المستديرة لغرض:

 

* تحديد الأزمات بشكل واضح، وتشخيص العلاج اللازم لها.

 

* توجيه الخطاب السياسي والإجتماعي والفكري والعلمي من خلاله لكل أفراد الأمة، الذي يصبّ في هذا الصعيد.

 

* استقطاب إهتمام الأُمة نحو المسائل الراهنة المحيطة بها.

 

* فتح الحوار السياسي المشترك لممارسة إنتخاب انجع الحلول وسبل تطوير المعالجات السديدة للتحديات الكبرى التي يواجهها المسلمون قاطبة.

 

* فتح القنوات بين الأطراف الإسلامية، ورفع الموانع التي تحول دون إلتقائها في ظلّ التفاهم والتودّد بين هذه الأطراف.

 

ومن هنا يمكن القول انّ لهذه المؤتمرات السنوية دور حركي على صعيدين:

 

الأول: توجيه إهتمامات الرأي العام الإسلامي نحو أهمّ المشاكل العاصفة به، ونبذ المسائل الخلافية الصغيرة جانباً.

 

الثاني: إيجاد التفاعل الحيوي بين الأطراف الإسلامية بدل الركود والإنجماد اللذين يكرسان حالة التفرقة والضعف بينها.

 

ولذا فانّ إقامة هذه المؤتمرات سنوياً يمكن أن تعتبر احدى الوسائل الفعّالة في تنشيط حركة المقاومة والتصدّي للهجمة الثقافية التي تشنّها الدوائر الإستعمارية التابعة للغرب ودفعها دائماً بإتجاه الأمام.

 

وفي الوقت الذي نبارك لكلّ العاملين والمساهمين في إقامة هذا المشروع العظيم، نرفع أيدينا بالدعاء لهم بالتسديد والموفقية، إنّه خير سميع مجيب.

الهامش:

([1]). نقلاً عن كتاب «صورة العرب في الصحافة البريطانية» د. حلمي خضر ساري: 19ط. بيروت.

([2]). راجع المصدر السابق: 20.

([3]). «الاستشراق: المعرفة، السلطة، الانشاء» د. ادواد سعيد: 103.

([4]). «نظرة عن قرب في المسيحية» تعريب مناف حسين الياسري: 85 ط. طهران.

([5]). «الإسلام على مفترق الطرق» تعريب د. عمر فروخ: 52 ط. بيروت.

([6]). المرجع السابق: 53 ـ 54.

([7]). نقلاً عن كتاب «صورة العرب في الصحافة البريطانية»: 22.

([8]). «الإسلام على مفترق الطريق»: 54.

([9]). اوربا والإسلام لهشام جعيّط: 15 ط. بيروت.

([10]). المائدة: 82.

([11]). نقلاً عن «صورة العرب في الصحافة البريطانية» د. حلمي خضر ساري: 25.

([12]). انظر «أوربا والإسلام» لهشام جعيّط: 16.

([13]). المرجع السابق.

([14]). نظرة عن قرب في المسيحية: 85.

([15]). نقلاً عن كتاب «صورة العرب في الصحافة البريطانية»: 25 ـ 26.

([16]). نقلاً عن كتاب «الإسلام كبديل» لمراد هوفمان: 9.

([17]). نقلاً عن مقال يحمل عنوان «الحركة الصليبية وأثرها على الإستشراق الغربي» د. علي الشامي منشور في مجلة الفكر العربي العدد (31): 137 لسنة 1983م.

([18]). المرجع السابق: 153.

([19]). نقلاً عن المقال المنشور للدكتور علي الشامي: 153.

([20]). الإسلام على مفترق الطريق: 55 ـ 56.

([21]). المرجع السابق: 60 ـ 61.

([22]). أوربا الإسلام: 20.

([23]). المرجع السابق: 23.

([24]). نقلاً عن كتاب «الإسلام كبديل» د. مراد هوفمان: 17. ويجدر هنا التذكير بأنّ فيينا قد احتفلت شهراً كاملاً في شهر مايس (مايو) 1983م بالذكرى الثلاثمائة لتراجع الترك (المسلمين) من أمام أبوابها.

([25]). الإسلام كبديل: 32.

([26]). نقلاً عن «الإسلام والاستشراق» د. صالح زهر الدين: 21 ط. بيروت.

([27]). الفاتيكان اثنين: 209، نقلاً عن كتاب «محاصرة وإبادة: موقف الغرب من الإسلام» د. زينب عبد العزيز: 140 ط. بيروت 1993م.

([28]). نقلاً عن مقال «الحركة الصليبية وأثرها على الإستشراق الغربي» د. علي الشامي المنشور في مجلة الفكر العربي العدد (31): 26 لسنة 1983م.

([29]). المرجع السابق: 23.

([30]). المرجع السابق نفسه: 24.

([31]). المرجع نفسه: 35.

([32]). راجع كتاب «المستشرقون» لنجيب العقيقي1: 117 ومابعده ط. مصر.

([33]). المرجع السابق: 118 ـ 120.

([34]). «الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم» د مصطفى السباعي: 13 ط3. بيروت.

([35]). «الفرنسيسكان واللغات اليونانية والشرقية في القرن الثالث عشر» د. مارتينيا نورونكاليا، ترجمة د. أسعد ذبيان: 18 ط. بيروت.

([36]). «صورة العرب في الصحافة البريطانية» د. حلمي خضر ساري: 30 ط. بيروت.

([37]). دين محمد2: 139، نقلاً عن كتاب «محاصرة وابادة: موقف الغرب من الاسلام» د. زينب عبد العزيز: 35 ط. بيروت.

([38]). نقلاً عن كتاب «محاصرة وإبادة»: 36 ـ 37.

([39]). راجع«الفرانسيسكان واللغات اليونانية...»: 161.

([40]). من مقال مطبوع له بعنوان «الرحلة وكتب الرحلات الأوربية إلى المشرق حتّى نهاية القرن الثامن عشر» والمنشور في مجلة الفكر العربي العدد (32): 58.

([41]). «محاصرة وابادة: موقف الغرب من الاسلام» د. زينب عبد العزيز: 278.

([42]). المصدر السابق: 280.

([43]). المصدر السابق نفسه: 281.

([44]). نقلاً عن كتاب «الإسلام والغرب: إشكالية التعايش والصراع» د. سمير سليمان المنشور ضمن سلسلة كتاب التوحيد رقم (2): 209 ط. قم.

([45]). من مقال بعنوان «الاختراق الثقافي في التربية الاسلامية» منشور في مجلة التوحيد العدد (96) لسنة 1998م: 101ط. قم

([46]). راجع المصدر السابق: 102 ـ 103.

([47]). عن فترة تلمذة «بوكوك» على استاذه الشيخ في حلب يراجع مقال «الشيخ فتح الله والمستشرق بوكوك» لسامي الكيالي المنشور في مجلة العربي الكويتية العدد(52) آذار/مارس لسنة 1963م: 60 ومابعده.

([48]). المرجع السابق: 63.

([49]). «الاستشراق: المعرفة، السلطة، الانشاء» ادوارد سعيد، ترجمة كمال أبو ديب: 105 ط. بيروت.

([50]). المرجع السابق.

([51]). «الفكر الإستشراقي: تاريخه وتقديمه» د. محمد الدسوقي: 173 ومابعده، ضمن سلسلة كتاب التوحيد العدد (5) ط. قم.

([52]). اعتمدنا في ذلك على كتاب «الإسلام والغرب» د. سمير سليمان: 202 ومابعده ضمن سلسلة كتاب التوحيد العدد(2) ط. قم.

([53]). الفكر الإستشراقي: 46.

([54]). «المنهج في كتابات الغربيّين عن التاريخ الإسلامي» د. عبد العظيم محمود الديب: 16 ضمن سلسلة كتاب الأُمة ط. قطر.

([55]). نقلاً عن كتاب «صورة العرب في الصحافة البريطانية» د. حلمي خضر ساري: 28.

([56]). راجع كتاب «محاصرة وإبادة» د. زينب عبد العزيز: 33 ومابعده.

([57]). نقلاً عن كتاب «محاصرة وإبادة»: 33.

([58]). صور من تاريخ الجزائر: 237، نقلاً عن كتاب «نقد البعثة الفرنسية إلى الجزائر» د. مروان بحيري: 85.

([59]). تغطية الإسلام: 36 تعريب سميرة نعيم خوري. ط. بيروت.

([60]). تغطية الإسلام: 37.

([61]). «في الغزو الفكري» د. أحمد السايح: 51 ضمن سلسلة منشورات كتاب الأمة العدد(38) ط. قطر

([62]). نقلاً عن «مابعد الدولة القومية المسلمة» لكليم صدّيقي: 3 مطبوع في كراس لسنة 1980م ط. لندن.

([63]). نقلاً عن كتاب «روائع إسلامية» لإبراهيم نعمة: 69.

([64]). انظر «حوار الحضارات» لروجيه غارودي الذي نشره قبل إعتناقه الإسلام بسنوات، تعريب د. عادل العوّا: 89 ومابعده ط. بيروت.

([65]). القضايا الكبرى: 167.

([66]). المصدر السابق: 180 ومابعده.

([67]). الرعد: 11.

([68]). نقلاً عن الإسلام والغرب والمستقبل: 73.